الثلاثاء، ٢٨ يوليو ٢٠٠٩

*** حسن البنا والقومية



ظهرت القومية كحركة فكرية سياسية متعصبة تدعوا الي تمجيد جنس علي غيره من الاجناس وكان بداية ظهورها في اوربا وسرعان ما انتشرت وتغلغلت في المجتمعات العربية، فتعالت الدعوات بتمجيد العرب وإقامة دولة عربية موحّدة لهم على أساسٍ من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ.

وتختلف القومية عن الوطنية في أنها أعمُّ وأوسع، فإذا كانت الوطنية تقتصر على حدود الدولة فإن القومية تتسع لتشمل جنسًا أو حضارةً، بغض النظر عن الحدود الجغرافية، فقد نجد وطنيةً مصريةً وأخرى سورية وأخرى مغربية ولكننا نجد قوميةً عربيةً لتشمل كل مَن يتحدث العربية.

ولما كانت هذه الفكرة منتشرةً في القرن العشرين وشغلت عقول كثير من المفكِّرين كان من الضروري أن يدلي الإمام البنا بدَلوه في هذا المجال فيوضح موقف الإخوان من هذه الفكرة.

ولو استعرضنا مجموعةَ الرسائل للإمام الشهيد فإننا نلاحظ مخاطبةَ البنا للمسلمين بلفظ "قومنا"؛ ليشير إلى أن كل المسلمين هم المخاطبون بقوله، فيقول في رسالة (دعوتنا): "ونحب مع هذا أن يعلم قومنا- وكل المسلمين قومنا- أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة".

ويصرِّح البنا بشعور الحب تجاه كل المسلمين، فيقول: "ونحب أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيبٌ إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء".

ويفسر سبب هذا الموقف بقوله: "وما أوقفَنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدَّت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا، فأقضت مضاجعنا، وأسالت مدامعَنا، وإنه لعزيزٌ علينا- جَدُّ عزيز- أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب، ولن نكون عليكم في يوم من الأيام".

ويوضح الإمام البنا أن موقف الإخوان هذا ثابتٌ تجاه قومهم حتى وإن ناصبوهم العَداء، متمثلين شعارًا أرشدهم إليه المصطفى وهو "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

ومن منطلق الغاية الكبرى للمسلمين في هداية البشر إلى الله يوجِّه البنا دعوتَه لكلِّ المسلمين أن يشتركوا ويتوحَّدوا معًا في سبيل تحقيق هذه الغاية بعد أن وحَّدهم الإيمانُ بالله وإن اختلفوا في درجة هذا الإيمان، فيقول: "والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ أنه عندهم إيمانٌ مخدَّرٌ نائمٌ في نفوسهم، لا يريدون أن ينزلوا على حكمه، ولا أن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمانٌ ملتهبٌ مشتعلٌ قويٌّ يقِظٌ في نفوس الإخوان المسلمين".

وفي توضيحه لموقف الإخوان من القومية يعدِّد البنا بعض المفاهيم والمعاني الإيجابية التي تنطوي عليها فكرة القومية والتي لا بأس من الأخذ بها، مثل:
قومية المجد: وهي تعني اتباع الخلف لمنهج السلف في الرقيّ نحو المجد والعظمة، ويؤكد البنا في هذا الإطار أننا إذا اعتبرنا سلفنا الصالح قدوةً حسنةً لنا فنبحث في أعماق التاريخ عن أمجاد هؤلاء السلف فنسجلها ونعرضها ونفخر بها، فهذا أمر جميل يعين على إيقاظ الهمم واستنهاض النفوس لاقتفاء أثر هؤلاء الأفذاذ.

قومية الأمة: وهي تعني أن عشيرة الرجل وأمته هم أولى الناس بخيره وبرِّه وهم الأَولى والأحقّ والأجدر بإحسانه وجهاده، فيؤكد البنا أن هذا المعنى أيضًا لا غبارَ عليه، وهو ما تطمئن إليه الفطرة البشرية السليمة التي يَعتقد صاحبُها أن أَولى الناس بجهده هم القوم الذين نشأ بينهم ويستشهد بقول الشاعر:
لعمري لرهط المرء خيرُ بقيةٍ عليه وإن عالوا به كل مركب

وثمة معنى آخر للقومية وهو تقسيم جهود الأفراد والجماعات، كلٌّ يعمل في مجاله، ثم يلتقي الجميع على هدف واحد، ويؤكد البنا أن كل هذه المعاني لا يرفضها الإسلام بل إنه يدعو إليها.وهناك أيضًا بعض المعاني والمفاهيم السلبية التي تنطوي عليها القومية، وهي معانٍ لا تتفق مع الإسلام في شيء، ومنها:

القومية الجاهلية: والتي يُقصد بها إحياءُ العادات الجاهلية التي درست عن حضاراتٍ جاهليةٍ بائدةٍ على حساب التخلي عن المبادئ الإسلامية بدعوى الاعتزاز بالجنس، كالنزعة التركية الطورانية التي غالت في تحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، فكان الرد عليها بالقوميات الجاهلية التي تمجّد من الحضارة الفرعونية أو الفينيقية أو حتى الدعوة إلى القومية العربية التي تنظر لسائر المسلمين من غير العرب على أنهم في مرتبة أدنى، وهذا بالطبع لا يتفق مع الإسلام أو دعوة الإخوان؛ لأن ذلك يؤدي إلى خسارةٍ فادحة وإحياء للنعرات الجاهلية التي قضى عليها الإسلام فوحد بنيه تحت راية واحدة.

قومية العدوان: وهي نوع من القومية تؤدي إلى الاعتزاز بالجنس مع انتقاص الأجناس الأخرى بشكلٍ يدفع إلى العدوان عليها، ونجد من هذا القبيل دعوات مثل الفاشية والنازية؛ حيث ادَّعت كل أمة أنها فوق الجميع؛ مما يسوغ لها العدوان على غيرها من الأمم.

وأكد الإمام أيضًا في اجتماع رؤوساء المناطق والمراكز على نفس المعاني حينما أوضح الفارق الأساسي بين شعور الوحدة الإسلامية وما يمليه الشعور بالقومية من عصبية؛ حيث سمعنا: "ألمانيا فوق الجميع"، "إيطاليا فوق الجميع"، "وسودي يا بريطانيا واحكمي".

ويرى الإمام أن هذا النوع أيضًا مذمومٌ؛ لأنه يؤدي إلى تناحر الجنس البشري والعدوان على الأمم الضعيفة والسعي نحو تحقيق الأوهام بينما لا عصبيةَ في الإسلام بل وحدة إنسانية بين بني البشر.

دعائم القومية
ينطلق الإخوان في دعوتهم للقومية بمعناها الإيجابي من قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس لآدم، وآدم من تراب، لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى".

وبالتالي يرى البنا أن تساوِي الناس في الأصل الواحد- وهو آدم- كفيلٌ بأن يجعل الناس متساوِين في الأصل، وأنَّ تفاضلَهم وتمايُزَهم هو لتنافسهم في الخير.

لذا تستند القومية في فكر البنا على دعامتين أساسيتين:
1- إيمان الناس بأنهم جميعًا لآدم، فهم إخوان، عليهم أن يتعاونوا وأن يُسالم بعضهم بعضًا ويرحم بعضهم بعضًا.

2- لأن تفاضل الناس بالأعمال وليس بالأجناس فإن عليهم أن يجتهدوا- كلٌّ من جانبه- حتى ترقَى الإنسانية.

وهو مع هذا لا ينكر أن لكل أمة خواصَّها ومميزاتها الخلقية وفي هذا تتفاوت الشعوب وتتفاضل ولا ينكر أحد فضلَ العرب في ذلك، إلا أن هذا ليس ذريعةً للعدوان على غيرها بل هو وسيلةٌ لتحقيق النهوض بالإنسانية.

روابط البشر
يرى الإمام البنا أن البشر في نظر الإخوان يرتبطون برباطين:
1- رباط العقيدة: ويشمل كل المسلمين الذين يعتقدون نفس الاعتقاد، وهذه الرابطة أقوى من رباط الدم والأرض ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية10).

2- رباط الدعوة: ويشمل سائر الناس، وهؤلاء مطلوبٌ مسالمتُهم ما سالَمونا ونحب لهم الخير طالما كفُّوا أيديَهم عنا ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾ (الممتحنة: 8- 9).

ركائز القومية
يعزو البنا عزَّةَ المسلم إلى ارتكازها على دعوة المولى- عز وجل- للمؤمنين بانتسابهم إليه سبحانه ومنحهم ولايته وتأكيده على أن العزة للمؤمنين كما نتمثله في قوله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: من الآية 257).

ويؤكدها أيضًا قوله عز وجل في الحديث القدسي: "يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة: يا بني آدم، جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا فقلتم فلان ابن فلان وقلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فاليوم أرفع نسبي وأوضع نسبكم"، وهذا الانتساب العزيز لله يحقق للمسلم عددًا من المعاني تجعل القومية لديه تختلف عن غيره:

1- فبينما يتفاخر الناس بأنسابهم يتفاخر المسلم بانتسابه لله عز وجل الذي له العزة كلها ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا﴾ (النساء: من الآية 139) ليكون إنسانًا ربانيًّا: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: من الآية 79).

2- تمنحه هذه العزة فيضًا من الإيمان وثقةً بالنجاح تغمر القلب، فلا يخشى المسلم بعدها أحدًا إلا الله ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)

3- تآخي الشعوب وتآزر الجماعات وتعاونها؛ مما يقضي على العصبيات ونوازع التخاصم والتقاطع بين الأمم، وكل هذه المعاني تؤدي إلى تذويب فكرة القومية بمعانيها السلبية، وتصبح فكرة الأخوَّة الإسلامية هي البديل، فالمسلم الفاتح قبل أن يغزو كان يبيع أهله وعشيرته ويتجرَّد من العصبية والقومية في سبيل الله، فهو لا يغزو لاعتقاده بسيادة جنسه، ولكن يغزو لنشر دين الله في الأرض.

القومية العربية والوحدة الإسلامية
يؤكد البنا أن الإسلامَ لا ينكر أن يعمل كل إنسان لخير بلده أو أن يقدمَه على غيره، فيقول في رسالة (دعوتنا): "إن الإسلام قد فرضها فريضةً لازمةً لا مناصَ منها، وأن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانَى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحمًا وجوارًا، والإسلام أيضًا لا ينكر فضل العرب أو خيريتهم، فالإسلام نشأ عربيًّا ووصل إلى الأمم الأخرى عن طريق العرب وجاء القرآن بلسان عربي مبين، وجاء في الأثر "إذا ذل العرب ذل الإسلام"، وبالتالي فإن وحدة العرب أمرٌ لا بد منها لإعادة مجد الإسلام ويجب أن يعمل كل مسلم لإحياء الوحدة العربية وتأييدها من منطلق تعريف العروبة باللسان العربي "ألا إن العربية اللسان.. ألا إن العربية اللسان"، وليس هذا من قبيل التعصب لجنس دون غيره وتقليل لشأن الأجناس الأخرى".

فالوحدة العربية المنشودة هنا ليست بذات المعنى للقومية العربية التي ينشدها دعاتها، من تقطيعٍ لأواصرِ المسلمين الذين ينتمون لقوميات أخرى.

لذا يفضل البنا مفهوم الوحدة الإسلامية على القومية العربية وهذه الوحدة تتدرَّج كما يلي:
1- لا بأس أن يعمل كل إنسان لوطنه ويقدمه على ما سواه.
2- ثم يؤيد الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض.
3- ثم العمل للجامعة الإسلامية؛ باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام.
4- ويرى البنا أن كل نوع يشد أزر الآخر، وهذا هو الفارق الأساسي بين الإخوان ودعاة القومية، الذين يرون القومية سلاحًا يُميت الشعور بما عداها.

وهذا ما أكده أيضًا في رسالة (دعوتنا في طور جديد)؛ حيث يقول: "نرجو أن تقوم في مصر دولةً مسلمةً تحتضن دعوة الإسلام، وتجمع كلمة العرب وتعمل لخيرهم وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته".